فى هذا الربيع المحمل بالرمال القادمة من الصحراء....كم من خطى خطاها القدماء على هذه الرمال ... و كم من عظماء أثارتهم خوابي الصحراء... فى هذا التوقيت بالذات لم أجد مانعا من مصارحة نفسي و مكاشفتها تماما بما قد يدور بداخلي . ..هذه الرمال الربيعية ربما هي ما ألقت بظلال التلقائية و الصفاء على ذهني هذه المرة و حولت ما فى الجب من كلمات مجردة الى حروف مكتوبة ربما يجدوا فيها مواربة للحقيقة او ازدراء للهوية التي ننتمي اليها و لكنها ببساطة على النقيض تماما فهي ما آلت اليه نفسي بمنطقية هذه الأيام مقارنة بما كان يحدث على هذا الوطن من آلاف السنين .( مع ملاحظة ان ما حدث منذ آلاف السنين ليس معلوما على وجه التأكيد و الجزم و انما أهواء المؤرخين و مجرد استنتاجات قادتنا اليها البرديات و النقوش على الجدران ) .
الهرم ..... هذا الصرح الذي طالما أحسست أمامه بالرهبة و بالعجز فى نفس الوقت ...هذا الصرح و الذي قد أثارت أساطيره – التى كتب عنها العملاق جمال الغيطاني في قصصه " متون الأهرام " – بداخلى العديد من الألحان الصوفيه الجميلة...ألحان خفيه ... خفاء تداهمه الحكايات و الأقاويل التى لن يتورع زاهي حواس مثلا فى ان يحكيها على الدوام أمام أحدى القنوات الفضائية ....مصر بلد الأهرام ... أعظم أبنية التاريخ و أجملها و أكثرها عراقة و اعجاز.....مما جعلها أشهر عجائب الدنيا السبع (هذه العبارات و التي تعودنا عليها ان تفتنا لم أجد الا مثيلاتها عندما قررت أن أبحث عن سر عظمة الهرم الأكبر على شبكة المعلومات ) .
الهرم ... حينما تباشر البحث عن أسباب اعجازه تصيبك الدهشة ( و عني فقد خالجت الدهشة ابتسامة ساخرة ) . هل هي الصدفة و حدها التي جعلت أحد المحاور الثلاثية للشكل الهرمي للهرم الأكبر يوازي و بدقة متناهية المحور المائل الذي تدور حوله الكره الأرضية؟؟ - هذا باعتبار أن القدماء المصريين قد اكتشفوا و منذ اللحظة الأولى أن الأرض كروية و ليس ذلك فحسب و لكنها تدور حول نفسها بميل معين - ..... التوافق الهندسي و الذي جعل أضلاع الهرم الأفقية تواجه الاتجاهات الأصليه بنفس الدقة و المهارة و التي جعلت جدرانة المصقولة آنذاك تعكس الضوء لتعمل بمثابة مزولة شمسية يعين من خلالها مواعيد البذر و الحصاد كما يقول دافيدسون فى تأريخه عن الفراعنه .... أما عن الدقة المتناهية فحدث بلا حرج فأورانوس لن يلقي بضوءه داخل حجرة الدفن العلوية بالهرم الأكبر من فراغ بل من خلال قناه رفيعة تم حفرها بمثاقب انبوبية – هى الاعجاز فى حد ذاته – لتفريغ الكتل الحجرية ليمر من خلالها الضوء لينعكس على طبقة زيتيه ليتم تكبيره بواسطة عدسة ضخمة موجهه ناحيه غرفة الدفن ... ناهيك عن النسب المعمارية المتوافقة للأهرام الثلاثة و هذه النسب ايضا هي التي جعلت من هذا البناء مقاوم للزلازل و الكوارث الطبيعية على مر الزمن .
و طوال قراءتك فى هذا الموضوع لن تتوقف عن الاندهاش ( ربما المصحوب ببعض التهكم ).... بالتأكيد نحن هنا لسنا بصدد انكار هذاالاعجاز العلمي ( فلكيا و هندسيا ) و لسنا بصدد تشكيك بقدر ما هو محاولة لدرء الشك فليس ثمت من ثوابت معينة يعتمد عليها فى هذا البحث و لكنها جميعا نظريات .
عودة لأصل الشكل الهرمي عند القدماء المصريين فهو رمز للديانة الشمسية و التي كانت رائجة في عهد الاسرة الرابعة و التي كان أول ملوكها الملك سنفرو والد الملك خوفو - خوفو لم يكن أول الملوك الذين بنوا هرم كبناء جنائزي او كمقبرة و لكنه كان قمة قمة التطور التكنولوجي آنذاك في كيفية رفع بناء بهذاالحجم - أما عن هذه العقيدة و التي كانت أقرب للطقوس السحرية فقد كانت تعتمد اساسا على الرمزية و ليس من الصعب تصور أن المصريين قد اعتقدوا أن الكوم ( الشكل الهرمي ) يشبة كثيرا التل الذي برز من المياه الأوليه عندما جاءت الدنيا الى حيز الوجود و بذلك فهو يمثل الوجود و بناء عليه يقاوم الموت سحريا اعتمادا على هذا الرمز القوي و الذي بطبيعة الحال أيد فكرة البعث الراسخة أساسا فى الوجدان المصري القديم و التي تنوعت و تناغمت عليها كل الديانات الفرعونية و مع ذلك فقد كانت هنالك فكرة أخري مرتبطة بالملك يؤمن بها انصار هذه الديانه و التي كان مركزها هليوبوليس و تبعا لهذه العقيدة يقضي الملك حياته الثانيه اما بصحبة اله الشمس او بصفته اله الشمس نفسه ..... و عن رمزية الهرم و التي تبدو لنا الآن واضحة الى حد كبير فهو بوابة الصعود و التدرج الى المنطقة الشمسية و لا شك ايضا انه يعكس منظر اشعة الشمس النازلة لتضئ الأرض من خلال فرجة من السحب .
هذا الخيال الخصب و الغموض و تلك الأساطير التى تحيط بهذه الديانة هي نفسها و بطبيعة الحال ما يقارب الغموض الذي يحيط بالهرم كبناء له شخصيته التاريخية و المعمارية فى نظر الغالبية العظمى من العلماءالذين حاولوا - انطلاقا من قلة الثوابت – تنسيب هذا البناء الى حضارات أخري .
عن هيرودوت أن الأحجار المستخدمة فى بناء الهرم الأكبر كانت تنقل من المحاجر بمنطقة طرة عن طريق نهر النيل ثم عبر طريق بناه ما يقارب المائة الف عامل فى عشر سنوات ثم ترفع من درجة الى اخرى عن طريق روافع من الأخشاب الاسطوانية القصيرة
يتحدث صنع الله ابراهيم على لسان بطله فى رواية " اللجنة " مشككا فى قدرة المصريين و حدهم على بناء الهرم وهو تشكيك قابل للبحث و يقول : " ليس هنالك من دليل صارم على أن المصريين استخدموا فى أي عصر من عصورهم التاريخية أجهزة ميكانيكية عدا الرافعة و البكرة و المنحدر المائل حيث أن ضخامة البناء و دقته تقطعان بأن وسائل سرية - ضاع سرها - قد أستخدمت فى اتمامه و ربما كان هذا مبعث الخلاف الناجم بشان دور الاسرائليين فى بناءه فالبعض يقول أن خوفو نفسه كان من ملوك بنى اسرائيل و قد اخفى ذلك طبقا لتقاليد شعبه- أي شعب المصري أم اليهودي ؟ – و هذا شئ مستبعد بطبيعة الحال – و البعض الآخر يقول أن خوفو لم يكن سوى فرعون مصري استعان بالعبقرية اليهودية لحل المشاكل المعقدة - هذا باعتبار أن اليهود آنذاك كانوا يفوقون المصريين حضارة و تقدم - و هو شئ مستبعد أيضا - و الواقع أن الخواص الهندسية للهرم الأكبر تدل على دراية وافرة بعلم الهندسة لم تتوافر بالطبع لدي المصريين و الذين بمنطقية استعانوا بخبرة أجنبية اسرائيلية و ان كان هناك ما يؤكد أن بني اسرائيل كانوا عبيدا لخوفو و أن هذا الملك المستبد أرغمهم على العمل فى بناء الأهرام " .
هذا الطابع الاستبدادي لفراعنة مصر و للملك خوفو بالتحديد لا ينكره التاريخ بل تثبته الكثير من الحكايات و الأساطير و البرديات و منها ما قد نجده فى معجم الحضارة المصرية القديمة عن أن خوفو أغلق كل المعابد و استعبد كل الرجال من رعيته لكي يبني قبره الضخم و أنه أرغم النساء و من ضمنهم ابنته على ممارسة البغاء لسد النفقات..و لا اعتقد أن هذه الروايات هى وليدة الحقد الأغريقى فى التأريخ فقط و انما هناك قصص كثيرة قديمة تصف خوفو بالغطرسة و اهدارالكرامة البشرية.
ثم ياتي الينا المؤرخ ايمانويل فلايكوفسكي بنظريته التاريخيه اعتمادا ايضا على انعدام الثوابت ...و يطرح امانويل بعدا جديدا يتضمن أن هناك خطاء فى التزامن الحضاري لحضارات الشرق القديم مقداره ستمائة عام .... و هذه القرون الستة المفقوده و الغير مثبت وجودها على البرديات أو الأثار القديمة تملأ التاريخ بمفاجآت مذهلة هذه النظريه مع بعض الفروض أدت الى اثبات هوية الرعاه ( الهكسوس ) الذين حكموا مصر بتأسيس الأسرة الخامسة عشر والسادسة عشر على انهم اليهود ( بني اسرائيل) بعد انشاء ممالكهم فى فلسطين و الى أن حتشبسوت ملكة مصر فى عهد الأسر الثامنة عشر حكمت اليمن و انها هي ملكة سبأ التى ذهبت الى سليمان و باعتبار الست قرون المفقودة و باعتبار ان اليهود خرجوا من مصر قبل ذلك بكثير فهوا تدعيم لا شك فيه لحقيقة يريد اثباتها و هى ان اليهود استعبدوا فى مصر فى عهد بناء الأهرام و سواء أصاب فلايكوفسكي أو أخطأ فالهدف واضح من نظريته المرسخة للكيان اليهودي فى الشرق القديم و هى محاولة لا بأس بها مقارنة بمحاولاتنا و التى لا ترقى الى هذا المستوى فى التباهى ( مجرد التباهي ) بحضارتنا القديمة .
ليس من بد فى أن تشييد الهرم الأكبر فى هذا الزمان البعيد لهو حدث جبار بكل المقاييس و التي قد تثير التساؤل حوله... كم من السواعد البشرية شاركت فى هذا البناء ؟ وكم منهم مات و هو يبني ؟ و هل كانوا مصريون أم غير ذلك ؟ و ان كانوا غير ذلك فمن أى أرض جاؤا ؟ هل كان هذا البناء رغبة من الشعب فى أن يشيد ما يثبت تقدمه و عظمته للأجيال القادمة ؟؟ أم هو و ليد ايمان قوي بديانه تضع الفرعون على قمة الوجود ؟ أم هو غرور ملك أحس انه استطاع أن يملك أرواح الآخرين ليشيدوا له مكانا يغادر منه الى السماوات؟؟ هل كان البناه عبيدا أم أحرارا ؟ و ان كانوا أحرارا يعمدون الى هذا الجانب الديني فى حياتهم لماذا لم يبني كل منهم هرما لنفسه يغادر منه ؟
الكثير من التساؤل الا أنني بموضوعية الزمن الراهن لاأبتلع هذه الكلمات لأيام أكثر مما فات.. لم أعد أقتات بها مثلما كنت فيما مضي . مصري أنا .. أؤمن بأنك ان لم تتبع رائحتك مت مختنقا بها .... هى نرجسية المقهور التي ندعوا بها أنفسنا أبناء الفراعنة ( ابناء الهرم ) أعظم أبنية التاريخ و أعظم حضارات الأرض و هذا مما يثير السخرية أننا فى اوقاتنا الصعبة هذه لم نفعل لهذا الهرم ما نستحق به ألقابا كهذه ....اننا نمتهن الاهانة و نمارسها على أنفسنا ...تعودنا مجافاة الحقيقة بعنتريات الماضى ( الغير مثبت ) ..تعودنا أن نعيش فى هذا التراب البالي نباهي به الماريين من هنا...نسرقه ثم نغتاله ثم نباهي به
مصري أنا ...أستند الى هذا الحائط وأسعد حينما أري آخرون يمارسون مجرد الاستناد و ليس الاعتماد او الصعود .
القاهرة 17-4-2008
يامن الجنيدي