كان الجو جميلا فى حجرته, فقد كان الطقس ربيعيا. و برغم ذلك, استثقل تلك الملابس الخفيفة على جسده. لم يطق صبرا حتى جرد نصفه العلوى منها بالكامل. انتابه شعور عارم بالارتياح جراء ذلك, فقد شعر أنه أصبح أكثر قدرة على الانطلاق و كأن قيودا قد انفكت عن أطرافه أو أحمالا قد انزاحت عن كاهله. و لم لا يستزيد إذن من معين الحرية هذا ؟! لم يلبث إلا و جرد نصفه الأسفل بالكامل, و مع آخر قطعة خلعها شعر بإشراق لا نهاية له. ياله من شعور جارف بالحرية و الانطلاق. لام نفسه فى هذه اللحظة لوما شديدا. كيف لم يدرك حقيقة الحرية هذه و هى أقرب إليه مما يتوقع؟ كيف لم يتذوق طعم الانطلاق هذا على الرغم من سهولة الحصول عليه؟ أخذ قراره بأنه لن يضع قطعة ملابس على جسمه بعد اليوم. سارع بإخراج كل ما يملك من ملابس من صناديقه القديمة ليتخلص منها, فحملها على كتفه و هو يقاوم شعورا شديدا بالتقزز لملامسة القماش جسده. كان عليه أن يقطع الردهة الطويلة المؤدية لباب البيت حتى يخرج. و لم يكد يخطو خطوة خارج حجرته حتى انذهل أهله من مشهده. دهش الأخ و انزعجت الأخت و أشفقت الأم أما الأب فقد سارع إليه ملقيا غطاء المنضدة القريبة عليه.
- ما لهؤلاء الأهل يتصرفون معى هكذا؟ ألا يرون ما أنا فيه من انطلاق و حيوية؟ كيف عجزت عقولهم قبل عيونهم عن إدراك هذا الفيض من الحرية الذى أسبح فيه؟ أبدلا من أن يشاركوننى هذا الكنز, يبادرون بدفعى للارتداد للخلف سنوات و سنوات؟
اندفع من باب البيت تاركا الأهل فى ذهولهم و واجه الطريق. ظل يتأمل وجوه الناس و ما اعتلاها من دهشة. هذاالتصفح لوجوه الناس و ما اعتراهم من استغراب و استنكار و انزعاج و استحياء أدخل على نفسه شعورا محببا بالتفرد و التميز, فهم لأول مرة يشاهدون شخصا متجردا من ملابسه بالكامل و يحمل على كتفه كما كبيرا من الملابس يسير بينهم فى ثبات و ثقة.
- يالهم من حمقى. أعجزوا أن يشاهدوا ما أنا فيه من حرية و انطلاق و إشراق و سعادة؟ دعهم إذن هؤلاء المتخلفين الحمقى. دعهم فى ظلامهم و جهلهم فإنه لا توجد قوة فى هذه الدنيا تستطيع أن تخرج هؤلاء الناس من دياجير الظلام التى هم فيها. إنى أرى النور و الحرية و الانطلاق و الحركة و السعادة, فلن أبالى بأحد بعد اليوم. لن يفهمنى سوى صديقى الساكن فى نهاية هذا الطريق.
ظل سائرا طوال طريقه حاملا ملابسه على كتفه وسط حشود من الناس التى ظلت ترشقه بنظراتهم من كل جهة. أسكرته لذة التميز و التفرد التى يلتهمها من ملامح الاندهاش على وجوه المارة, و لم يفق إلا و هو أمام بيت صديقه فطرق الباب. فتح له صديقه و إذا بالصديق يغرق فى المفاجأة. لم تكن المفاجأة فى كون صديقه قد شاهده عاريا, بل كانت فى أن صديقه كان هو الآخر عاريا نصفه الأعلى و كان على وشك أن يخلع سائر ملابسه بعد أن جمع كل قطعة ملابس يملكها و وضعها فى ردهة البيت.
- أتعلم أنه لولا طرقاتك المتسارعة على الباب لامتدت يدى التى فتحت مزلاج الباب لتفتح مزلاج سروالى فأتخلص من آخر ما أرتدى؟! سبقتنى إذن ياصديقى. أكاد أقسم أن صديقنا الساكن فى نهاية المدينة قد ضاق ذرعا هو أيضا بملابسه مثلنا تماما. هو على شاكلتنا و نادرا ما يخالفنا فى فكرة.
إنطلقا إلى صديقهما حاملين ملابسهما عابرين طرقات المدينة وسط استنكارات سائر الناس.
- هؤلاء الحمقى ينظرون إلينا باستغراب. ألا تلاحظ كم هم متخلفون؟ انظر إلى نظراتهم البلهاء!
- نعم يا صديقى, إنى كلما شاهدت نظراتهم إلينا كلما شعرت بأننا أرقى و أعلى و أنهم تحت أقدامنا. ألا توافقنى أننا أرقى منهم فى الرتبة و العقل؟
- بلى, نحن على قمة رتبة البشر و هم فى الدرجة الثانية. نحن من الدرجة الأولى و هم بشر من الدرجة الثانية,
سلوكياتهم من الدرجة الثانية, أفكارهم من الدرجة الثانية, انفعالاتهم من الدرجة الثانية, أخلاقهم من الدرجة الثانية, آدابهم من الدرجة الثانية. كلهم من الدرجة الثانية.
- اطرق الباب اذن, فقد وصلنا على عتبات بيت صديقنا.
لم يطرق أحدهما الباب هذه المرة, فقد خرج إليهما صديقهما فى هذه اللحظة و هو عار تماما, بل كان يحمل لفائف ملابسه على كتفه. تبادل ثلاثتهم نظرات الفهم و الاستيعاب فى صمت و ثقة, و ارتسمت على وجوههم ابتسامة المنتصر و انطلقوا. اخترقوا طرقات المدينة و هم يلتهمون نظرات الاستنكار و الاستغراب من أوجه الناس و هم غارقون فى زهو يلفه صمت. وصلوا إلى مكان معزول فى أطراف المدينة و أنزلوا لفائف ملابسهم فى صمت. بدأوا بإشعال اللفائف و وقفوا يتأملون النار و هى تأكل قطع الملابس قطعة قطعة, و تعلقت عيونهم فى استمتاع و نشوة بسحابات الدخان و هى تعلو و تعلو فى السماء.
الإثنين 27 نوفمبر
2006
2006
تأليف : محمد الفولي
eng_mfm@yahoo.com
Comments
تحياتي