Skip to main content

الصفوة


كان الجو جميلا فى حجرته, فقد كان الطقس ربيعيا. و برغم ذلك, استثقل تلك الملابس الخفيفة على جسده. لم يطق صبرا حتى جرد نصفه العلوى منها بالكامل. انتابه شعور عارم بالارتياح جراء ذلك, فقد شعر أنه أصبح أكثر قدرة على الانطلاق و كأن قيودا قد انفكت عن أطرافه أو أحمالا قد انزاحت عن كاهله. و لم لا يستزيد إذن من معين الحرية هذا ؟! لم يلبث إلا و جرد نصفه الأسفل بالكامل, و مع آخر قطعة خلعها شعر بإشراق لا نهاية له. ياله من شعور جارف بالحرية و الانطلاق. لام نفسه فى هذه اللحظة لوما شديدا. كيف لم يدرك حقيقة الحرية هذه و هى أقرب إليه مما يتوقع؟ كيف لم يتذوق طعم الانطلاق هذا على الرغم من سهولة الحصول عليه؟ أخذ قراره بأنه لن يضع قطعة ملابس على جسمه بعد اليوم. سارع بإخراج كل ما يملك من ملابس من صناديقه القديمة ليتخلص منها, فحملها على كتفه و هو يقاوم شعورا شديدا بالتقزز لملامسة القماش جسده. كان عليه أن يقطع الردهة الطويلة المؤدية لباب البيت حتى يخرج. و لم يكد يخطو خطوة خارج حجرته حتى انذهل أهله من مشهده. دهش الأخ و انزعجت الأخت و أشفقت الأم أما الأب فقد سارع إليه ملقيا غطاء المنضدة القريبة عليه.
- ما لهؤلاء الأهل يتصرفون معى هكذا؟ ألا يرون ما أنا فيه من انطلاق و حيوية؟ كيف عجزت عقولهم قبل عيونهم عن إدراك هذا الفيض من الحرية الذى أسبح فيه؟ أبدلا من أن يشاركوننى هذا الكنز, يبادرون بدفعى للارتداد للخلف سنوات و سنوات؟
اندفع من باب البيت تاركا الأهل فى ذهولهم و واجه الطريق. ظل يتأمل وجوه الناس و ما اعتلاها من دهشة. هذاالتصفح لوجوه الناس و ما اعتراهم من استغراب و استنكار و انزعاج و استحياء أدخل على نفسه شعورا محببا بالتفرد و التميز, فهم لأول مرة يشاهدون شخصا متجردا من ملابسه بالكامل و يحمل على كتفه كما كبيرا من الملابس يسير بينهم فى ثبات و ثقة.
- يالهم من حمقى. أعجزوا أن يشاهدوا ما أنا فيه من حرية و انطلاق و إشراق و سعادة؟ دعهم إذن هؤلاء المتخلفين الحمقى. دعهم فى ظلامهم و جهلهم فإنه لا توجد قوة فى هذه الدنيا تستطيع أن تخرج هؤلاء الناس من دياجير الظلام التى هم فيها. إنى أرى النور و الحرية و الانطلاق و الحركة و السعادة, فلن أبالى بأحد بعد اليوم. لن يفهمنى سوى صديقى الساكن فى نهاية هذا الطريق.
ظل سائرا طوال طريقه حاملا ملابسه على كتفه وسط حشود من الناس التى ظلت ترشقه بنظراتهم من كل جهة. أسكرته لذة التميز و التفرد التى يلتهمها من ملامح الاندهاش على وجوه المارة, و لم يفق إلا و هو أمام بيت صديقه فطرق الباب. فتح له صديقه و إذا بالصديق يغرق فى المفاجأة. لم تكن المفاجأة فى كون صديقه قد شاهده عاريا, بل كانت فى أن صديقه كان هو الآخر عاريا نصفه الأعلى و كان على وشك أن يخلع سائر ملابسه بعد أن جمع كل قطعة ملابس يملكها و وضعها فى ردهة البيت.
- أتعلم أنه لولا طرقاتك المتسارعة على الباب لامتدت يدى التى فتحت مزلاج الباب لتفتح مزلاج سروالى فأتخلص من آخر ما أرتدى؟! سبقتنى إذن ياصديقى. أكاد أقسم أن صديقنا الساكن فى نهاية المدينة قد ضاق ذرعا هو أيضا بملابسه مثلنا تماما. هو على شاكلتنا و نادرا ما يخالفنا فى فكرة.
إنطلقا إلى صديقهما حاملين ملابسهما عابرين طرقات المدينة وسط استنكارات سائر الناس.
- هؤلاء الحمقى ينظرون إلينا باستغراب. ألا تلاحظ كم هم متخلفون؟ انظر إلى نظراتهم البلهاء!
- نعم يا صديقى, إنى كلما شاهدت نظراتهم إلينا كلما شعرت بأننا أرقى و أعلى و أنهم تحت أقدامنا. ألا توافقنى أننا أرقى منهم فى الرتبة و العقل؟
- بلى, نحن على قمة رتبة البشر و هم فى الدرجة الثانية. نحن من الدرجة الأولى و هم بشر من الدرجة الثانية,
سلوكياتهم من الدرجة الثانية, أفكارهم من الدرجة الثانية, انفعالاتهم من الدرجة الثانية, أخلاقهم من الدرجة الثانية, آدابهم من الدرجة الثانية. كلهم من الدرجة الثانية.
- اطرق الباب اذن, فقد وصلنا على عتبات بيت صديقنا.
لم يطرق أحدهما الباب هذه المرة, فقد خرج إليهما صديقهما فى هذه اللحظة و هو عار تماما, بل كان يحمل لفائف ملابسه على كتفه. تبادل ثلاثتهم نظرات الفهم و الاستيعاب فى صمت و ثقة, و ارتسمت على وجوههم ابتسامة المنتصر و انطلقوا. اخترقوا طرقات المدينة و هم يلتهمون نظرات الاستنكار و الاستغراب من أوجه الناس و هم غارقون فى زهو يلفه صمت. وصلوا إلى مكان معزول فى أطراف المدينة و أنزلوا لفائف ملابسهم فى صمت. بدأوا بإشعال اللفائف و وقفوا يتأملون النار و هى تأكل قطع الملابس قطعة قطعة, و تعلقت عيونهم فى استمتاع و نشوة بسحابات الدخان و هى تعلو و تعلو فى السماء.
الإثنين 27 نوفمبر
2006

تأليف : محمد الفولي
eng_mfm@yahoo.com

Comments

VEЯŎ said…
كلمات جميلة ومدونة كمان جميلة
تحياتي

Popular posts from this blog

ذاكرة الســــــماء

انا البحر و من بعدى .... كل شئ يستاء غطائي السماء و صحراء بحجم الكون تشعلني.............اذ تشاء انا البحر .... و مياهي الزرقاء تقتات من الماضى المعطاء ......حبات رمل تنقشها و بطرف الريح و تغني للحاضر ......أغنية " سبعة أيام حمقاء" و حروف من ألق .... لا الومه اذ تضاءل انا البحر ......انتحل الشقاء و امْثل – صبحا أو مساء – في ذاكرة الغضب يســــتاء... كل شئ من بعدي بلا رجاء انا البحر ....ذاكرة السماء و الألق .....حاء.....و باء احترف الموج و لا الومه اذ تضاءل ايضا لا تغني في المساء فالصمت ... صمتُ اذ تريد و الوقت يقتله الشقاء انا البحر اغنية الأغاني و تارخ الاماني لتسكنها ضوابط الريح و تملكها اتجاهات النجوم و قوافي الوجوم..........لا لا اريد استـــــياء الغضب بحر و انا البحر و اكاليل الوفاء يامن الجنيدي سبتمبر - 2007 - نويبع

........................

You do not need to leave your room. Remain sitting at your table and listen. Do not even listen, simply wait, be quiet still and solitary. The world will freely offer itself to you to be unmasked, it has no choice, it will roll in ecstasy at your feet. - Kafka [ 1883-1924 ]

فى هوية الهرم الكبر

فى هذا الربيع المحمل بالرمال القادمة من الصحراء....كم من خطى خطاها القدماء على هذه الرمال ... و كم من عظماء أثارتهم خوابي الصحراء... فى هذا التوقيت بالذات لم أجد مانعا من مصارحة نفسي و مكاشفتها تماما بما قد يدور بداخلي . ..هذه الرمال الربيعية ربما هي ما ألقت بظلال التلقائية و الصفاء على ذهني هذه المرة و حولت ما فى الجب من كلمات مجردة الى حروف مكتوبة ربما يجدوا فيها مواربة للحقيقة او ازدراء للهوية التي ننتمي اليها و لكنها ببساطة على النقيض تماما فهي ما آلت اليه نفسي بمنطقية هذه الأيام مقارنة بما كان يحدث على هذا الوطن من آلاف السنين .( مع ملاحظة ان ما حدث منذ آلاف السنين ليس معلوما على وجه التأكيد و الجزم و انما أهواء المؤرخين و مجرد استنتاجات قادتنا اليها البرديات و النقوش على الجدران ) . الهرم ..... هذا الصرح الذي طالما أحسست أمامه بالرهبة و بالعجز فى نفس الوقت ...هذا الصرح و الذي قد أثارت أساطيره – التى كتب عنها العملاق جمال الغيطاني في قصصه " متون الأهرام " – بداخلى العديد من الألحان الصوفيه الجميلة...ألحان خفيه ...